افتتاح كنيس الخراب يوم الإثنين 15/3/2010 في بلدة القدس القديمة، لم يكن
سوى قمّة جبل الجليد في مشروع التهويد المتواصل الذي تتعرّض له المدينة،
لتحويلهاإلى مدينة يهوديّة الدين والثقافة والسكان. ومشروع الاحتلال
الهادف لتهويد ليسجديدًا فهو قد بدأ منذ استكمال احتلال المدينة المقدّسة
عام 1967، وكان موقع هذاالمشروع على سلّم أولويّات المحتلّ يتغيّر بتغيّر
الظروف السياسيّة والميدانيّة فيدولة الاحتلال ومحيطها. ومنذ بداية العام
2000 ومع طرح أريئيل شارون لخطّة الانسحابالأحادي ورؤيته لرسم حدود الدولة
من جانبٍ واحد، أصبحت مسألة حسم مصير القدسوهويّتها إحدى أهمّ الأولويّات
لدى المحتلّ، بالتوازي مع رسم الحدود النهائيّة وفكّالارتباط مع
الفلسطينيّين من خلال الانسحاب الأحاديّ الجانب، وفي السنوات اللاحقةوعلى
أثر حرب لبنان عام 2006 وحرب غزّة عام 2008 تراجعت فكرة الانسحاب
الأحاديّورسم الحدود النهائيّة، لكنّ فكرة حسم مصير القدس حافظت على
زخمها، بل اكتسبتمزيدًا من الأهميّة بعد أن أضحت المشروع الاستراتيجيّ شبه
الوحيد الذي يملك فيهالمحتلّ رؤيةً واضحة محددة الأهداف.
وقد انعكس ذلك على الأرض على شكل هجمةٍ تهويديّة غير مسبوقة طالت كلّ
جوانبالمدينة المقدّسة، بدءًا بمقدّساتها وعلى رأسها المسجد الأقصى الذي
شهد خلال عام 2009 وحده افتتاح أكثر من 5 مواقع حفريّات جديدة أسفل منه
وفي محيطه ليصبح بذلك عددمواقع الحفريّات المحيطة به أكثر من 25 موقعًا،
كما شهد المسجد خلال العام نفسهافتتاح كنيسين جديدين في محيطه أحدهما وهو
كنيس حمام العين أقرب إلى المسجد الأقصى (على بعد 100م إلى الغرب منه فقط)
من كنيس الخراب الذي افتتح مؤخرًا في حارة الشرف (الحيّ اليهوديّ)،
وتضاعفت اقتحامات المتطرفين وأجهزة الأمن للمسسجد 4 أضعاف عنالعام الذي
سبقه لتبلغ 43 اقتحام، اشتملت على محاولاتٍ لإقامة طقوسٍ يهوديّة دينيّةفي
المسجد، وعلى مناورات أمنيّة، وعلى اقتاحاماتٍ لشخصيّاتٍ رسميّة بينها
اقتحامٌلوزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال المتطرّف "إسحق
أهرونوفيتش"، الذي يعدُّ منالناحية الفعلية أرفع شخصيةٍ رسمية صهيونية
تقتحم المسجد بعد احتلاله حتى يومناهذا، إذ أنّ شارون عند اقتحامه للأقصى
لم يكن يحمل صفةً رسميّة وإنّما كنا زعيم حزبالليكود.
ولم تكن الهجمة التهويديّة أقلّ وطأةً على سكّان المدينة المقدسيّين، إذ
سحبالاحتلال هويّات الإقامة من أكثر من 4000 منهم في عامٍ واحد ما يعني
فعليًّا طردهممن المدينة وحرمانهم من دخولها أو الإقامة فيها في المستقبل،
كما حاول الاحتلالتهجير 1,500 آخرين من حيّ البستان جنوب المسجد الأقصى
وتهجير مئاتٍ آخرين من حيّالشيخ جراح شمال البلدة القديمة، ومحاولات
التهجير هذه لا زالت مستمرّة ونجاحهامتعلّقٌ أولاً بقدرة المقدسيين على
الصمود وبالدعم الشعبيّ والماديّ الذي يتلقونهمن محيطهم العربيّ
والإسلاميّ.
أمّا الاستيطان فقد تضاعف منذ مؤتمر أنابوليس للسلام عام 2007 بعشرة
أضعاف،وخلال العام الماضيّ وحده أقرّ الاحتلال بناء 12,000 وحدةٍ سكنيّة
جديدة فيمستوطنات شرقيّ القدس، ومن المتوقّع أن يبدأ الاحتلال ببناء عددٍ
مماثلٍ أيضًا خلالالعام الحاليّ، وإلى جانب بناء المساكن فقد أقرّ
الاحتلال مخططًا لبناء شبكةٍللقطار خفيف تصل بين كتلة أدوميم الاستيطانيّة
شرقيّ القدس وبين مركز المدينة فيمحيط البلدة القديمة ومستوطنات جيلو وهار
حوما وكتلة عتصيون الاستيطانيّة في الجنوبوذلك لتشجيع المستوطنين اليهود
على الإقامة في هذه المستوطنات البعيدة عن مركزالقدس التجاريّ والاقتصاديّ.
وحتى هويّة المدينة الثقافيّة والمعماريّة لم تسلم من مشروع التهويد، فقد
أقرّالاحتلال خلال العام الماضي اعتماد اسم "يروشلايم" كاسمٍ رسميّ للقدس
حتى في اللغةالعربيّة، كما أقر تغيير أسامء شوارع وأحياء القدس جميعها بما
في ذلك البلدةالقديمة والأحياء الفلسطينيّة إلى أسماءٍ عبريّة، وإضافةً
لذلك فقد بدأ الاحتلالمشروعًا "لترميم البلدة القديمة" يهدف لتغيير الطراز
المعماريّ لأبوابها وأزقّتهاومبانيها ليُصبح مشابهًا للطراز
"الهيروديانيّ" المزعوم الذي يدعي الاحتلال أنّهكان سائدًا إبّان وجود
اليهود في المدينة في عهد "المعبد الثانيّ".
نحن إذًا أمام مشروعٍ تهويديّ منهجيّ مبرمج يحظى بإجماعٍ سياسيّ، وتعمل
فيهدولة الاحتلال بكلّ مؤسساتها، بالتعاون مع الجمعيّات الاستيطانيّة
المدعومة منأثرياء اليهود والمسيحيين الصهاينة في الولايات المتحدة
الأمريكيّة وأوروباوأوستراليا، مشروعٌ تُخصّص دولة الاحتلال لدعمه أكثر من
مليار دولار سنويّ، وتمدّهالجمعيّات اليهوديّة بأكثر من 250 مليون دولار
أمريكيّ كلّ سنة.
ولكي نتعامل مع هذا المشروع ونواجهه علينا أن نفهمه وندرك أبعاده ووسائل
عمله،فتهجير سكّان حيّ البستان مثلاً أو توسيع مستوطنةٍ في شمال القدس،
يُوازي في خطورتهعلى المدينة المقدّسة افتتاح كنيسٍ يهوديّ في البلدة
القديمة، ومع ذلك فإنّ تلكالإجراءات تمرّ مرور الكرام دون أيّ ردّ فعل
شعبيّ أو رسميّ يُذكر حتى من قبل فصائلالمقاومة الفلسطينيّة، أو المعنيّين
بالشأن المقدسيّ.
وحتّى ردّ فعلنا على بناء كنيس الخراب جاء متأخّرًا ودالاًّ على تقصيرنا
فيمتابعة شؤون القدس والتفاعل معها، فالاحتلال أقرّ بناء هذا الكنيس منذ
عام 2001وبدأ ببنائه في عام 2006، ولو كان ردّ الفعل آنذاك مشابهًا للهبّة
التي حصلت عندافتتاحه لربما ما كان ليُبنى في الأساس. ولا أقصد بكلامي هذا
التهوين من الهبّةالشعبيّة التي حصلت أو تثبيط الهمم، فهي بكلٍ تأكيدٍ
مثّلت رادعًا فعالاً للاحتلالسيدفعه على الأقلّ للتخفيف من وتيرة الهجمة
التي تتعرض لها القدس وتأجيل حسم مصيرهالشهورٍ عدّة، لكنّ المقصد هو
التأكيد على ضرورة فهم الواقع المقدسيّ وتقدير إجراءاتالمحتلّ بقدرها دون
تهويلها كربط بناء كنيس الخراب بهدم المسجد الأقصى، ودونتبخيسها كأن يمرّ
خبر تهجير 1,500 من المقدسيّين من الحاضن القريب للمسجد الأقصىمرور الكرام
دون التفاتٍ أو ردّة فعل مناسبةٍ تردع المحتلّ وتُكرّس أهميّة المدينةلا
لدى أهلها فقط بل بل لدى الجمهور العربيّ والإسلاميّ في كّل مكان.